آراء و مقالات

ذكريات المونديال، الحلقة السابعة والأخيرة: “سباسيبا روسيا”

ركبنا القطار المتوجه من موسكو الى كالينغراد، موطن الفيلسوف الشهير امانويل كانت و موقعة أضخم المواجهات العسكرية بين جيوش هتلر والسوفيات. على متن القطار، كان صديقي عبدالعالي نائما طيلة الرحلة الممتدة لاكثر من ٢٢ساعة. كانت الجماهير المغربية حاضرة بقوة، اضافة الى بعض الاسبان و الروس، فالكل يريد مشاهدة اسبانيا ضد المنتخب. كانت الجماهير المغربية ترسم احتفاليتها المعهودة، تتغنى بالاهازيج المغربية، وتقاطعها احيانا اغاني جماهير لوكوموتيف او سبارتاك موسكو. في الليل كنا نعلم ان شرطة مراقبة الحدود لن تدعنا ننام.

كانت فرقة الجمارك الروسية اول من صعدت القطار لتراقب جوازات السفر وتختمها لأننا سنغادر الأراضي الروسية. فقط بعد دقائق قليلة صعدت الشرطة البيلاروسية. بيلاروسيا، او روسيا البيضاء، تعد من اكثر الدول صرامة في قضايا الهجرة وعبور الحدود. نمنا بعدها بعض الوقت، ثم ايقظتنا الشرطة البيلاروسية مجددا لما وصلنا الحدود الليتوانية، و التي عبرناها ايضا وفق نفس عمليات المراقبة، حيث التأكد من صلاحية الفيزا وختم جواز السفر عند الدخول والخروج.

وصلنا روسيا من جديد، او بالاحرى الدويلة الصغيرة المعروفة بكالينينغراد والتي تقع بين ليتوانيا، لاتفيا وبولونيا. نزلنا من القطار، فوجدنا في استقبالنا الشرطة المغربية والتي وزعت منشورات على الجماهير المغربية حول اهم الامور التي وجب اتباعها بكالينغراد باعتبارها اقرب نقطة حدودية من بولونيا والمانيا؛ فمسألة الهجرة السررية واردة بالتأكيد. افترقت انا وصديقي عبدالعالي، اخذت طاكسي صغير وتوجهت الى فندقي من اجل الاستراحة والاستعداد لمباراة اليوم؛ اسبانيا بنجومها العالميين وخصوصا المدريديين، في مواجهة المنتخب الوطني!

كان الفندق عبارة عن منزل عائلي، كان قد استفاد من دعم السلطات المحلية والتي فتحت الباب امام السكان المحليين لاستقبال الجماهير الوافدة على المدينة نظرا لقلة الفنادق. خرجت بعدها وتوجهت الى مركز المدينة قصد ملاقاة الجماهير والتوجه الى الملعب. عبر نافذة الحافلة، اكتشفت ان كالينينغراد مدينة صغيرة، وانها هادئة وغير مزدحمة. كنت قد قرأت سابقا ان المدينة كانت تخضع للحكم الألماني قبل ان تصبح عبارة عن حطام اثناء الحرب العالمية الثانية، وتصبح بعد ذلك تحت السيادة الروسية. في مركز المدينة، كانت الجماهير المغربية والاسبانية بكثرة. هنا ستجد بعض المغاربة من قدم عبر سيارته من المانيا او بولونيا فقط من اجل المباراة، في حين اغلب الجماهير القادمة من موسكو تنقلت عبر الطائرة او القطار. توجهت بعد وجبة الغذاء الى الملعب، لاجد نفسي باكرا في المدرجات.

بدأت الجماهير المغربية والروسية والاسبانية في التوافد على الملعب رغم الامطار الغزيرة. بدأت المباراة وأملنا في مباراة تاريخية دون هزيمة. كان الأمر غاية في الروعة أن تشاهد نجوم اسبانيا في مواجهة منتخبنا المغربي. وكان الأجمل حينها الشعور الرائع لما سجل بوطيب ذاك الهدف في شباك دي خيا، ثم بعدها هدف النصيري التاريخي في الجولة الثانية. اهازيج واحتفالية وفرحة وافتخار بالعناصر الوطنية رغم هدف التعادل في اللحظات الأخيرة من اللقاء. كان المشهد رائعا! فالجماهير المتواجدة بالملعب الكل يصفق للمنتخب ويهنئه على مردوده في المباراة والبطولة بشكل عام رغم مرارة الاقصاء. هاته المرة كنت امسك بحقيبتي كي لا يتكرر ما وقع لي في ملعب لوجنيكي بموسكو. خرجنا من الملعب وتوجهنا مشيا بشكل جماهيري الى وسط المدينة.

كان ليل المدينة الهادئة غير هادئ ذاك اليوم. أجواء المونديال كانت رائعة حينها كما لو كنت بموسكو او كازان او سانت بطرسبرغ. هنا يمكنك ان تلتقي باغلب الوجوه المغربية المعروفة من صحفيين وفنانين ولاعبين قدامى؛ فالمدينة صغيرة، ومركزها يقصده الجميع. توجهت بعدها الى الفندق حيث سأمضي ليلتي الاخيرة في الديار الروسية.
كنت قد حجزت تذكرة الحافلة من كالينينغراد الى وارسو عاصمة بولونيا عوض العودة عبر القطار الى موسكو البعيدة. في الصباح أهديت قميص المنتخب الى صاحب الفندق الذي ساعدني في عملية نسخ تذاكر العودة. توجهت الى محطة الحافلات.. هناك وجدت بعض الجماهير المغربية على متن نفس الحافلة المتجهة الى حلف وارسو!

ما اورع تجربة عبور الحدود عند كل سفر. هاته المرة الحدود الروسية البولونية حيث نزلنا من الحافلة مرتين. كانت الطريق على متن الحافلة ساحرة. اعجبني كثيرا منظر الاشجار الكثيفة على جنبات الطريق، وايضا صديقنا السائق الكرواتي الذي شغل لنا مباريات كاس العالم عبر شاشة التلفاز الخاصة بكل مقعد. وصلنا وارسو في حدود العاشرة ليلا.. لكن رحلتي الموالية الى بروكسيل في حدود التاسعة صباحا. لم احجز لحد الآن اي فندق في وارسو لأقضي ليلتي، وحتى المطار فهو بعيد جدا عن المدينة. قررت انا وبعض المغاربة ان نمضي الليل في شوارع وارسو الى حين الرابعة صباحا، موعد انطلاق اول حافلة الى مطار وارسو مدلين. الحمد لله فمركز المدينة لا ينام، وخصوصا المركز التجاري وسط ساحة الثقافة الشهيرة.

في الصباح الباكر، توجهت الى المطار لأخذ الطائرة الى بركسيل. استغرقت الرحلة ساعة واحدة.. لكن علي ان ابقى في المطار الى حين المساء، موعد رحلتي في اتجاه فاس. كنت جد متعب حيث لم أنم الليلة الماضية. جاء وقت الطائرة.. لم اتذكر ما وقع على متنها.. فقد نمت طيلة الرحلة الى أن ستيقظت في سماء فاس.

انتهت الرحلة، وانتهى معها ذاك الحلم الجميل وتلك الذكريات الرائعة مرورا بايطاليا وروسيا وبلاروسيا وليتوانيا وكاليننغراد وبولونيا وبلجيكا. انتهت معها ايضا ذكريات موسكو وسانت بطرسبرغ… ذكريات ملعب لوجنيكي و الفان فيست والساحة الحمراء.. فشكرا لروسيا ولشعبها الرائع… سباسيبا روسيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *